رجوع للمقالات
الخميس, 22 يوليو 2004 02:01 ص

حتى لا تغرق التايتنك!‬


‫غريبة هي الصدامات والسجالات التي يشهدها المجلس النيابي بين الفينة والأخرى‪ ،‬بل ازد الوصف على‬
‫ذلك ليصبح بعيدا عن طموحاتنا في ديمق ارطية محترمة وحوار متحضر‪ ،‬بل ازد ليصبح شكلا لا احب ذكر‬
‫كلمات توصيفه كي لا يزعل النواب الاع ازء مشكورين على جهودهم التي بدؤوا يساومون على تقديرها بما‬

                                                                      ‫اصبح باد ار منهم من سلوكات‪.‬‬
‫تحاول الثقافة الحديثة جاهدة بآلياتها الجديدة التغلب على ما تسميه السردية او المباشرة في النص الادبي‪،‬‬
‫واصبحت تدعو الى الحداثة في اللفظ والتعبير‪ ،‬بما يعني دعوة منها لتصبح الدبلوماسية اللغوية ل ازما علينا‬
‫في الق ارءة والكتابة‪ ،‬ومثل تلك الدعوة لازمه اكيدا في السجال السياسي‪ ،‬فالواقعية السردية تصبح صعبة‬
‫ومعقدة في الحقل السياسي بقدر بساطتها في الج ارئد اليومية التي يقرؤها العوام‪ ،‬فعندما يتشاجر الاولاد في‬
‫المدرسة بسبب اختلافهم على من يحق له ش ارء الساندويشه الاخيرة من المقصف المدرسي قبل انتهاء‬
‫الفسحة‪ ،‬تجدهم يظهرون كل ما لذ وطاب من الكلمات البذيئة حتى يوصل كل واحد منهما الآخر الى‬
‫حديقة الحيوانات من كثرة الشتائم الحيوانية التي يستخدمونها ابتداءا من "يا الحمار" وانتهاء بـ "يا الخنزير"‬
‫بالاضافة الى الالفاظ الشوارعية الاخرى! وذلك لان هذين الولدين لا يعرفان معنى الدبلوماسية او‬
‫الاصطلاح الرمزي‪ ،‬ولكني احسبنا نحن الكبار نعرفها! فعندما تتخالف وجهة نظري مع آخرين او عندما‬
‫اجد نفسي غاضبة لانتهاك حقوقي الوجودية‪ ،‬فليس ل ازما ان احتاج للمباشرة باستخدام الالفاظ غير المهذبة‬

                      ‫والسلوكات الصريحة‪ ،‬فكثير من السياسيون اغتيلوا لدى استلامهم باقات من الورود!‬
‫كم كان المصور الصحفي بارعا عند التقاطه تلك التكشيره القوية للنائب التي كانت تحمل ما يشبه الرغبة‬
‫بالقتل وليس الضرب‪ ،‬والامّر من ذلك ما كان سيتحول اليه شكل المجلس لو ان هذا كان قد صب كل‬
‫معاني تلك التكشيره مستخدما يديه‪ ،‬وما ت اره الآخر كان سيفعل لو استلم اللكمة الاولى! ايعقل ان كل ذلك‬
‫يحصل في مجلس نيابي فيه رئيس!! فكم كان مخجلا ان يحتاج النواب الى آخرين ليوقفوهم عن ضرب‬
‫بعضهم البعض‪ ،‬فان كان هؤلاء لا يحملون في داخلهم نزعة موازنة انفعالاتهم فكيف ت ارهم سيوازنون بين ما‬
‫نطالبهم برفعه من اولويات؟! غير المصالحة الاخيرة بين اعضاء المجلس والتي كانت تماما كختام‬
‫المسرحيات الحماسية عندما ينتهي الممثلون برمي القبلات على الجمهور بعدما احرقوا اعصابهم وقت‬
‫العرض‪ ،‬او ربما كمصالحة المعلمة للاولاد بالفسحة بقسمة السندويشه الى نصفين ليأكلها الاثنان! فلماذا‬
‫يشهد المجلس في العديد من جلساته من الكلمات ما لم يشمله قاموس التربية خجلا ليشملها ممثلونا‬
‫علانية‪ ،‬كان ينعت نائب بعض النواب بجملة "شياطين" ليظهر الوزعة الدينية المباشرة في المصطلحات‪،‬‬
‫حيث لا يمر على المتدينين يوم لا يذكرون فيه الشيطان! عكس ما يفترض في المتدّين من زيادة ذكر‬

                                                                                              ‫الله!!‬
‫وليقول احدهم "احترمنا احنه ربعك" فانا لا اعتقد بان احت ارم النائب للآخر يجب ان يقوم على قاعدة‬
‫"الربوعية" كما لا اجد كلمة "ربع" مناسبة اصلا في مثل ذلك المكان‪ ،‬والاسوء من ذلك جملة "خذ او ارقك‬
‫واعمل مسيرة بّره" فمع احت ارمي الشديد لقائلها الا اني انصدمت من بدور مثل هذه الجملة منه‪ ،‬فانا مثلا‬
‫لست مؤيدة تماما لرفع الاو ارق في المجلس‪ ،‬ولكني ضد النبرة الاسته ازئية من مواقف الآخرين‪ ،‬فاين‬

                                               ‫احت ارمنا لممارسات بعضنا في ظل ما يكفله لهم القانون!‬
‫وكثي ار ما يطالب الرئيس باحت ارم كل نائب للوقت المخصص له اثناء الجلسة والتي لا تتعدى في الغالب‬
‫الخمس دقائق‪ ،‬وكنت لا اصدق ما يحاول البعض التلميح اليه احيانا من انه يمنع النائب الذي يخالفه‬
‫ال أري من توضيح ما يريده‪ ،‬ولكنني تفاجأت بهذه الجلسة بـ ‪ 17‬دقيقة التي اعطاها لمستشار و ازرة الداخلية‬
‫‪-‬الذي تعجبني ثقته بنفسه وسلاسة اسلوبه وحجته الموزونه عند الحديث‪ -‬فكأن الرئيس كان يريدنا ان‬
‫نستمع للمستشار بهدوء فتنصب كلماته في اسماعنا فتحسن الموطئ لنقتنع في الاخير‪ ،‬وما يزيد من تاكيد‬
‫ذلك هو مداخلة احد النواب الذي ليس اصلا عضوا في لجنة التحقيق في ملف التجنيس! فما الذي يعنيه‬
‫ذلك؟ صحيح اني ضد استخدام الهتافات التي اعتدناها على الصعيد السياسي المحلي من "هل انت مع‬
‫الحكومه والاّ معانا" ولكنني ايضا ضد خلط الادوار وتناسي الاحقية فيها‪ ،‬فالمسرحية التي شهدها المجلس‬
‫في جلسته تلك كانت مباشرة وتصب بشكل واضح في موقف داعي ومحامي لموقف الحكومة وهذا ليس‬
‫اختصاص المجلس بالمطلق ‪-‬بغض النظر عن مصداقية موقف الحكومه من عدمه‪ -‬فلماذا لم يكن‬

                                                                                ‫المجلس موضوعيا؟!‬
‫كما ان التصعيد الذي جرى بسبب زّلة لسان احد النواب بما سمي اهانة المجنسين قد يضيع الورقة ال اربحة‬
‫في تلك المسرحية‪ ،‬فبعد كل ما جرى في المجلس من عصب العيون من جهة وارتفاع الايدي من جهة‬
‫واختلال الموضوعية من جهة وافلات ربان السفينة لدّفتها من جهة‪ ،‬لا يجب ان يخرج كل ذلك بنتيجة‬
‫دعوى على زلة لسان! والتي لا يستبعد ان تكون بهرجة سياسية لاضاعة الحسبة كما يحصل في معظم‬
‫القبب السياسية‪ ،‬فلا احد يشك باحت ارمنا وحبنا لكل من عاش معنا على هذه الارض الطيبة‪ ،‬بل وسعادتنا‬
‫لمن حصل على الجنسية من مستحقيها‪ ،‬اما ما زل به لسان احد النواب لم يكن يتعدى ما قد يزل به لسان‬
‫الطالب المتشاجر على الساندويشة! وهذا ليس اعفاء عن الذنب بقدرما هو تخفيف لوزنه‪ ،‬فمهما كان‬
‫موقف الانسان صادقا فيظل ل ازما عليه الانتباه لكلماته ولسلوكاته‪ ،‬والاهم من ذلك هو وجود الرّبان الذي لم‬

        ‫يكن كافيا حتى لا تغرق "التايتنك" التي احسبها غرقت في هذه الجلسة بالرغم من "ختامها المسك"‪.‬‬
‫وأعود لتساؤل يغلبني من الفترة للأخرى ولم احدد بعد لنفسي اجابته‪ ،‬وهو ما الذي استفدناه من المقاطعه؟‬
‫فلو كان هؤلاء المقاطعون اليوم في المجلس يض ّمون اصواتهم لاصوات بعض النواب "الفاعلين" المعدودين‬
‫على الاصابع‪ ،‬اما كان وضع المجلس اليوم افضل‪ ،‬فكيف يمكننا التصفير في المبا ارة ان لم ندخل‬
‫الملعب؟! وما فائدة المؤتم ارت الصحفية التي يتعالى فيها ص ارخ المعارضة وغيرهم "لقد كان فاولاً" "الحكم‬
‫تجاهل التسلسل" "لقد تمت –اشكره‪ -‬رشوة الحكم " "الجمهور لم يكن متحض اًر" فلماذا كل هذه الهتافات‬
‫خلف الكواليس وعلى الع ارئض بعد رؤية المبا ارة مسجله مع ان المشاركة فيها على الهواء مباشرة كانت‬
‫بالمجان! فنتمنى لو أن رؤى جمهور المباريات السياسية وأعضاءها يتعضون من هذه التجربة لنخلق‬
‫مستقبلا عالما متبادلا من الشد والجذب المباشر‪ ،‬فالمباريات المباشرة أحلى وأكثر تشويقاً‪ ،‬كما ان الجمهور‬
‫يستطيع النزول الى الملعب اذا تطلب الامر لايقاف المبا ارة‪ ،‬اما المبا ارة المسجلة فلا يمكن تغيير نتائجها‬

                                                                            ‫حتى لو كسرنا التلفزيون!‬

بقلم: د. معصومة المطاوعة