غريبة هي الصدامات والسجالات التي يشهدها المجلس النيابي بين الفينة والأخرى ،بل ازد الوصف على
ذلك ليصبح بعيدا عن طموحاتنا في ديمق ارطية محترمة وحوار متحضر ،بل ازد ليصبح شكلا لا احب ذكر
كلمات توصيفه كي لا يزعل النواب الاع ازء مشكورين على جهودهم التي بدؤوا يساومون على تقديرها بما
اصبح باد ار منهم من سلوكات.
تحاول الثقافة الحديثة جاهدة بآلياتها الجديدة التغلب على ما تسميه السردية او المباشرة في النص الادبي،
واصبحت تدعو الى الحداثة في اللفظ والتعبير ،بما يعني دعوة منها لتصبح الدبلوماسية اللغوية ل ازما علينا
في الق ارءة والكتابة ،ومثل تلك الدعوة لازمه اكيدا في السجال السياسي ،فالواقعية السردية تصبح صعبة
ومعقدة في الحقل السياسي بقدر بساطتها في الج ارئد اليومية التي يقرؤها العوام ،فعندما يتشاجر الاولاد في
المدرسة بسبب اختلافهم على من يحق له ش ارء الساندويشه الاخيرة من المقصف المدرسي قبل انتهاء
الفسحة ،تجدهم يظهرون كل ما لذ وطاب من الكلمات البذيئة حتى يوصل كل واحد منهما الآخر الى
حديقة الحيوانات من كثرة الشتائم الحيوانية التي يستخدمونها ابتداءا من "يا الحمار" وانتهاء بـ "يا الخنزير"
بالاضافة الى الالفاظ الشوارعية الاخرى! وذلك لان هذين الولدين لا يعرفان معنى الدبلوماسية او
الاصطلاح الرمزي ،ولكني احسبنا نحن الكبار نعرفها! فعندما تتخالف وجهة نظري مع آخرين او عندما
اجد نفسي غاضبة لانتهاك حقوقي الوجودية ،فليس ل ازما ان احتاج للمباشرة باستخدام الالفاظ غير المهذبة
والسلوكات الصريحة ،فكثير من السياسيون اغتيلوا لدى استلامهم باقات من الورود!
كم كان المصور الصحفي بارعا عند التقاطه تلك التكشيره القوية للنائب التي كانت تحمل ما يشبه الرغبة
بالقتل وليس الضرب ،والامّر من ذلك ما كان سيتحول اليه شكل المجلس لو ان هذا كان قد صب كل
معاني تلك التكشيره مستخدما يديه ،وما ت اره الآخر كان سيفعل لو استلم اللكمة الاولى! ايعقل ان كل ذلك
يحصل في مجلس نيابي فيه رئيس!! فكم كان مخجلا ان يحتاج النواب الى آخرين ليوقفوهم عن ضرب
بعضهم البعض ،فان كان هؤلاء لا يحملون في داخلهم نزعة موازنة انفعالاتهم فكيف ت ارهم سيوازنون بين ما
نطالبهم برفعه من اولويات؟! غير المصالحة الاخيرة بين اعضاء المجلس والتي كانت تماما كختام
المسرحيات الحماسية عندما ينتهي الممثلون برمي القبلات على الجمهور بعدما احرقوا اعصابهم وقت
العرض ،او ربما كمصالحة المعلمة للاولاد بالفسحة بقسمة السندويشه الى نصفين ليأكلها الاثنان! فلماذا
يشهد المجلس في العديد من جلساته من الكلمات ما لم يشمله قاموس التربية خجلا ليشملها ممثلونا
علانية ،كان ينعت نائب بعض النواب بجملة "شياطين" ليظهر الوزعة الدينية المباشرة في المصطلحات،
حيث لا يمر على المتدينين يوم لا يذكرون فيه الشيطان! عكس ما يفترض في المتدّين من زيادة ذكر
الله!!
وليقول احدهم "احترمنا احنه ربعك" فانا لا اعتقد بان احت ارم النائب للآخر يجب ان يقوم على قاعدة
"الربوعية" كما لا اجد كلمة "ربع" مناسبة اصلا في مثل ذلك المكان ،والاسوء من ذلك جملة "خذ او ارقك
واعمل مسيرة بّره" فمع احت ارمي الشديد لقائلها الا اني انصدمت من بدور مثل هذه الجملة منه ،فانا مثلا
لست مؤيدة تماما لرفع الاو ارق في المجلس ،ولكني ضد النبرة الاسته ازئية من مواقف الآخرين ،فاين
احت ارمنا لممارسات بعضنا في ظل ما يكفله لهم القانون!
وكثي ار ما يطالب الرئيس باحت ارم كل نائب للوقت المخصص له اثناء الجلسة والتي لا تتعدى في الغالب
الخمس دقائق ،وكنت لا اصدق ما يحاول البعض التلميح اليه احيانا من انه يمنع النائب الذي يخالفه
ال أري من توضيح ما يريده ،ولكنني تفاجأت بهذه الجلسة بـ 17دقيقة التي اعطاها لمستشار و ازرة الداخلية
-الذي تعجبني ثقته بنفسه وسلاسة اسلوبه وحجته الموزونه عند الحديث -فكأن الرئيس كان يريدنا ان
نستمع للمستشار بهدوء فتنصب كلماته في اسماعنا فتحسن الموطئ لنقتنع في الاخير ،وما يزيد من تاكيد
ذلك هو مداخلة احد النواب الذي ليس اصلا عضوا في لجنة التحقيق في ملف التجنيس! فما الذي يعنيه
ذلك؟ صحيح اني ضد استخدام الهتافات التي اعتدناها على الصعيد السياسي المحلي من "هل انت مع
الحكومه والاّ معانا" ولكنني ايضا ضد خلط الادوار وتناسي الاحقية فيها ،فالمسرحية التي شهدها المجلس
في جلسته تلك كانت مباشرة وتصب بشكل واضح في موقف داعي ومحامي لموقف الحكومة وهذا ليس
اختصاص المجلس بالمطلق -بغض النظر عن مصداقية موقف الحكومه من عدمه -فلماذا لم يكن
المجلس موضوعيا؟!
كما ان التصعيد الذي جرى بسبب زّلة لسان احد النواب بما سمي اهانة المجنسين قد يضيع الورقة ال اربحة
في تلك المسرحية ،فبعد كل ما جرى في المجلس من عصب العيون من جهة وارتفاع الايدي من جهة
واختلال الموضوعية من جهة وافلات ربان السفينة لدّفتها من جهة ،لا يجب ان يخرج كل ذلك بنتيجة
دعوى على زلة لسان! والتي لا يستبعد ان تكون بهرجة سياسية لاضاعة الحسبة كما يحصل في معظم
القبب السياسية ،فلا احد يشك باحت ارمنا وحبنا لكل من عاش معنا على هذه الارض الطيبة ،بل وسعادتنا
لمن حصل على الجنسية من مستحقيها ،اما ما زل به لسان احد النواب لم يكن يتعدى ما قد يزل به لسان
الطالب المتشاجر على الساندويشة! وهذا ليس اعفاء عن الذنب بقدرما هو تخفيف لوزنه ،فمهما كان
موقف الانسان صادقا فيظل ل ازما عليه الانتباه لكلماته ولسلوكاته ،والاهم من ذلك هو وجود الرّبان الذي لم
يكن كافيا حتى لا تغرق "التايتنك" التي احسبها غرقت في هذه الجلسة بالرغم من "ختامها المسك".
وأعود لتساؤل يغلبني من الفترة للأخرى ولم احدد بعد لنفسي اجابته ،وهو ما الذي استفدناه من المقاطعه؟
فلو كان هؤلاء المقاطعون اليوم في المجلس يض ّمون اصواتهم لاصوات بعض النواب "الفاعلين" المعدودين
على الاصابع ،اما كان وضع المجلس اليوم افضل ،فكيف يمكننا التصفير في المبا ارة ان لم ندخل
الملعب؟! وما فائدة المؤتم ارت الصحفية التي يتعالى فيها ص ارخ المعارضة وغيرهم "لقد كان فاولاً" "الحكم
تجاهل التسلسل" "لقد تمت –اشكره -رشوة الحكم " "الجمهور لم يكن متحض اًر" فلماذا كل هذه الهتافات
خلف الكواليس وعلى الع ارئض بعد رؤية المبا ارة مسجله مع ان المشاركة فيها على الهواء مباشرة كانت
بالمجان! فنتمنى لو أن رؤى جمهور المباريات السياسية وأعضاءها يتعضون من هذه التجربة لنخلق
مستقبلا عالما متبادلا من الشد والجذب المباشر ،فالمباريات المباشرة أحلى وأكثر تشويقاً ،كما ان الجمهور
يستطيع النزول الى الملعب اذا تطلب الامر لايقاف المبا ارة ،اما المبا ارة المسجلة فلا يمكن تغيير نتائجها
حتى لو كسرنا التلفزيون!