اليوم أريد أن أضع أمامكم مفارقة تربوية..
مفارقة بسيطة ..قيمتها في دفتر علامات المعلم ..%1
مريم وفاطمة ..طالبتان مجتهدتان ومتشابهتان لأبعد الحدود ..امتياز في كل المواد ..الأعلى في تخصصهما
في معدل الجامعة ..الفرق بينهما جدا بسيط ..مريم خجولة وهادئة ومتنازلة ..بينما فاطمة جريئة وقيادية وواثقة..
فعندما ينقِص الدكتور من درجات مريم بعض الكسور ،فإن مريم تسكت وتبكي في الخفاء وتجتهد أكثر في
المرة القادمة وإن كان اجتهادها ليس بالقليل ..بينما عندما ينقص الدكتور من درجات فاطمة ،فالموضوع لن
يمر مرور الك ارم ،لأن فاطمة لن تسكت ،بل ستقاتل لتلك الكسور القليلة وتحاول كسبها مهما كان الثمن ،حتى
لو اضطرت للتظلم عند رئيس القسم أو العميد لكسب ربع درجة..
"الزبدة" مريم هي المتفوقة المحبوبة ،بينما فاطمة هي المتفوقة المزعجة..
وتبدأ المفارقة عند تحديد من هو الأول على الدفعة ..مريم أم فاطمة..؟
وتكمن الصعوبة في أن مرك از واحدا فقط متوفر للحصول على وظيفة معيد بالجامعة ،والتي يحلم بها الطلبة
المتفوقين ال ارغبين بالتدريس بالجامعة ،ومن ثم الابتعاث لإكمال الماجستير والدكتو ارة على حساب الجامعة ومن
ثم التدريس فيها" ..جميل" هذا الحلم..
على الرغم من الإغ ارء المت ارفق مع هذه الفرصة ،ألا أن اختيار هذا الشخص سهل جدا ..فصاحب المعدل
الأعلى هو من يكسب الرهان ،ومن يكون في قصتنا؟ إنها مريم ..فمعدل مريم يفوق معدل فاطمة بـ..%1
تكسب مريم البعثة وتبدأ المشوار وتنتهي بأن تصبح دكتورة بالجامعة ،حالها حال الكثيرين الذين ما إن يصلوا
إلا هذا الحد ،إلا وتهزم حياتهم الاجتماعية حياتهم العلمية ،وينتهي بهم المطاف كما مع مريم ،بزوج وأطفال
ووظيفة ،وتختفي مريم بين الطلبة والأساتذة ،وينسى الجميع بأنها في يوم من الأيام كانت الأولى على دفعتها..
ولكن أين فاطمة؟!
فاطمة لم تتمكن من تحقيق حلمها بأن تكون معيدة بالجامعة ليسهل عليها د ارسة الماجستير والدكتو ارة والتدريس
بالجامعة ،ومع أوضاعها الأسرية الصعبة يكاد يكون حلم الد ارسة مستحيلا..
ولكنها كما تعرفونها ليست من النوع الذي يستسلم ..تضطر للعمل بدل الد ارسة لتتمكن من ادخار مبلغ د ارسة
الماجستير ،سنة متواصلة من العمل ب ارتب معقول بشهادتها ضمن لها مبلغ د ارسة الماجستير ،فتترك العمل
وتعود لك ارسي الجامعة نفسها وتنهي درجة الماجستير ..تتقدم بطلب للتدريس في الجامعه ،لكن بلا جدوى،
ففرص حملة الماجستير ضئيلة جدا بالجامعة ،فتعود للبحث عن وظيفة أخرى وتجدها ،ويبدأ المشوار من
جديد ..ولكن هذه المرة لفترة أطول..
تضطر فاطمة للعمل ثلاث سنوات لتتمكن من توفير مبلغ د ارسة الدكتو ارة ،ترفض كل من يتقدم لخطبتها خوفاً
من أن تخسر ادخارها مع فوضى الحياة الزوجية ،وخوفا من انجاب الاطفال الذين سيطالبون بوقت د ارستها،
وتنغمس بالعمل حتى تنتهي من ادخار مبلغ د ارستها ،وتترك العمل مرة أخرى وتعود لمقاعد الد ارسة في الجامعة
نفسها ،وتنهي درجة الدكتو ارة ،وبفضل الله وكفاحها تحصل على وظيفة أستاذ مساعد بالجامعه..
ويتحقق الحلم ..فاطمة دكتورة بالجامعة ،ولكن ليست أي دكتورة ،فهي رئيسة للعديد من اللجان ،ومنسقة للعديد
من الب ارمج ،وقائدة للكثير من المجموعات البحثية ،جميع الطلبة والأساتذة يعرفون فاطمة أو يتكلمون عن
إنجا ازتها ،فهي دائما على صفحات مواقع الجامعة الالكترونية..
ولنعد للمفارقة ،للـ %1التي تفوقت فيها مريم على فاطمة ،فواقع الحال يقول بأن فاطمة متفوقة على مريم
عش ارت الم ارت ،فهل ت ارها تلك الـ %1كانت نسبة حقيقية؟؟
لا للأسف لم تكن كذلك ،وقد دفعت فاطمة ثمن ذلك شقاء وكفاحا وتضحية ،حتى تعوض تلك الـنسبة الصغيرة،
فالـ %1تلك ،كانت نتيجة تنا لزات كثيرة قدمها الكثير من الأساتذة لمريم لأنها كانت هادئة ومسيرة ،وحرموا
فاطمة منها لأنها كانت جريئة وقائدة ..الـ %1تلك ،كانت بعض تبرعات الأساتذة لمريم حبا وتقدي ار لسكوتها
عن سوء تصحيحهم او تدريسهم وقبولها بما كانوا يقولون بأنه تقديرها ،بينما حرموا فاطمة من ذات الـ %1لأنها
كانت تعرف حقوقها وكانت شخصيتها ترفض الانصياع دون السؤال وترفض قبول درجة دون قناعة ،فلقد
دفعت فاطمة ثمنا كبي ار ومؤلما فقط لأنها كانت مختلفة ،لأنها لم تكن الطالبة المتفوقة الهادئة التي يحلم بها
كل معلم ..مع أنها الطالبة المتفوقة القائدة التي يحلم بها كل وطن ..الطالبة التي ممكن أن تغير بلادنا للأفضل
حتى لو كانت مزعجة..
وتستمر فاطمة بالعطاء كل يوم ..بينما مريم تقرر التفرغ لحياتها الاجتماعية بالتقاعد المبكر..